سوريا وصدام الهويات

                  
صدام الهويات في سوريا

انتهت حقبة الأحلام والطموحات العربية الكبرى من غير أن يتحقق شيئاً منها. واجتاحت مشاعر الإحباط واليأس الشوارع والمجتمعات العربية شرقاً وغرباً. كما زادت الشكوك بالمستقبل العربي مع انسداد أفق الخروج من الأزمات التي تعصف بهذه المجتمعات وطالت كل بناها، السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية وحتى الروحية. وبقي الفكر العربي المأزوم يخوض معارك قديمة- قومية وآيديولوجية - حسمت منذ زمن وتجاوزها العصر، كما أنه يخوض معاركه الجديدة بذات العقلية والوسائل التقليدية التي كانت سبباً أساسياً لهزيمته. رافضاً الاعتراف بما فرضته التحولات والتغيرات العالمية من قيم وأفكار ومصالح كونية، وبما أبرزته أو طرحته من مشكلات وقضايا جديدة. وبقيت(سياسة النعامة) هي المفضلة والمعتمدة لدى الحكومات والأنظمة العربية التي اعتادت على تجاهل مشكلات وأزمات مجتمعاتها والتنكر لها مهما بلغت من التأزم والخطورة، وإذا ما تفاقمت وانفجرت حتى حُملت المسؤولية للخارج المتآمر .على ضوء هذه الوصفة العربية ليس غريباً أن يرفض القوميون العرب، موالاة ومعارضة، طرح مسألة الهوية الوطنية لسوريا كإشكالية قائمة ترتبط بتركيبة المجتمع السوري وتعدد ثقافاته. فقد وقعت مسألة(الهوية الوطنية)،مع قضايا أخرى مهمة، ضحية الآيديولوجيا والسياسات الخاطئة للقومين العرب الذين تعاطوا مع مسالة الانتماء الى العروبة على أنها قضية محسومة وبديهية لجميع شعوب المناطق التي دخلها العرب المسلمون ونشروا فيها لغتهم وثقافتهم ،دون أن يعيروا أي اهتمام أو اعتبار للثقافات واللغات الأخرى التي كانت سائدة فيها منذ آلاف السنين. ففي سوريا بدلاً من أن يأخذ القوميون العرب بالهوية السورية كهوية أصيلة وموحدة جامعة لثقافات كل الأقوام والشعوب السورية ،فرضوا هويتهم العربية وثقافتهم ولغتهم بقدر ما استطاعوا على الجميع. بسبب نظرة الاستعلاء القومي هذه، والتعاطي السلبي مع ظاهرة التنوع والتعدد الإثني والديني واللغوي والثقافي التي يتصف بها المجتمع السوري، انحرفت هذه الظاهرة التاريخية عن مسارها الطبيعي وأضحت التمايزات الثقافية والاجتماعية والعرقية شروخاً وتصدعات وانقسامات عمودية في البناء السوري، حتى بات يخشى أن تتحول الى كيانات سياسية متصارعة داخل كيان الدولة السورية ،كما هو حاصل اليوم في العراق ولينان.
تجدر الإشارة هنا الى أن (دستور 1950) كان يسمي سوريا بـ(الجمهورية السورية)،لكن بقيام الوحدة القسرية مع مصر وإعلان (الجمهورية العربية المتحدة) 1958، بعد الانفصال تمسك القوميون العرب  بصفة العروبة للدولة السورية واصبحت ( الجمهورية العربية السورية) وجاء انقلاب حزب (البعث العربي الاشتراكي) 1963 ليعزز الهوية العربية لسوريا ، لا بل رفع الهوية العربية الى مرتبة القداسة حتى بدأت الهوية الوطنية لسوريا تتآكل شيئاً فشيئاً وتختفي رموز الاستقلال الوطني أمام طغيان الرموز القومية العربية والحزبية التي فرضها البعث من شعارات وعلم ونشيد قومي ودستور جديد للبلاد نصب فيه(البعث) نفسه قائداً للدولة والمجتمع، واختزل الوطن والوطنية في شخص الحاكم وتعظيمه الى درجة التأليه. فضلاً عن تعريب شامل لمختلف مناحي الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية والتربوية والتعليمية، واجراء تغيير ديمغرافي في منطقة (الجزيرة السورية) حيث التجمعات الآشورية(سريانية/كلدانية) والكردية والأرمنية، من خلال توطين فيها آلاف العائلات العربية ،التي استقدمها من محافظات أخرى.
لا جدال، على أن سوريا اليوم هي جزء من محيطها العربي والإسلامي، لكن اطلاق صفة (العروبة) على الدولة السورية واختزال هويتها وحضارتها بالعروبة والإسلام يشكل انتقاص من مكانة الحضارة السورية العريقة التي تمتد لأكثر من ست آلاف عام قبل الميلاد، فضلاً عن أن في هذا الوصف مغالطات تاريخية وتناقضات سياسية عديدة، إذ ليس كل السوريين عرب كما ليس كل العرب مسلمون. والأخطر في موضوع الهوية السورية هو ما يلقنه حزب البعث للأجيال السورية من ثقافة اجتماعية وتربوية عبر مناهج ومقررات، تدرس في مختلف المراحل الدراسية والجامعية في سوريا ضمن خطة ممنهجة ومدروسة الهدف منها غرز عقيدته القومية وآيديولوجيته الحزبية في عقول ونفوس الأجيال السورية القادمة وضبط عملية التنشئة الثقافية والسياسية والاجتماعية لهذه الأجيال وتوجيهها بحيث تضمن ديمومة واستمرار النظام البعثي القائم. ذات الشيء ينسحب على الإعلام السوري (المسموع والمرئي والمقروء)،الذي يسيطر عليه البعث. مثل هذا النظام التعليمي والتربوي والإعلامي المؤدلج  والمنحاز كلياً لفكر وآيديولوجية البعث و للتاريخ العربي الإسلامي يساهم، بشكل أو بآخر، في تصدع الهوية الوطنية لسوريا كما أنه المسؤول، بدرجة كبيرة، عن استنبات جذور التعصب القومي والإثني والديني والانحدار بالوعي الوطني والثقافة الوطنية للشعب السوري .فالعربي الذي يعطي لنفسه حق التطلع لدولة عربية واحدة تضم كل العرب ،يبرر سعي الأكراد والآشوريين والبربر في أن يتطلعوا لوحدة أبناء جلدتهم وقوميتهم .وإلا ما تفسير أن يشعر العربي المسلم في سوريا بأن العربي والمسلم في جيبوتي وباكستان اقرب اليه من جاره الآشوري والأرمني، وبالمقابل الآشوري والمسيحي عامة في سوريا يتعاطف مع الآشوري و المسيحي أينما كان في حين تتسم علاقته مع جاره المسلم بالفتور والجفاء، وهكذا بالنسبة للكردي وغيره . فإذا كانت مشكلة الهوية السورية قد أخذت في الماضي طابعاً صامتاً فهذا لا يعني أنها غير موجودة، وقد تأخذ طابعاً دراماتيكياً بعد أن أخرجتها الحرب السورية من دائرة المحظورات وبرزت الى السطح وبقوة في مرحلة حساسة جداً ، حيث بدأت المنطقة تشهد ما يمكن وصفه بـ"ثورة الهويات المهمشة أو المقموعة" . والحرب بين السوريين المستعيرة منذ نحو خمس سنوات هي في أحد أبعادها وأوجهها " صراع وتصادم هوياتي". أي بموازاة النزاع المسلح على السلطة، ثمة صراعاً على هوية الدولة السورية الجديدة . صراع بين دعاة "الهوية العربية" ودعاة "الهوية الاسلامية" ودعاة "الهوية السورية"  وأنصار "الهوية العلمانية المدنية"  والمكونات السورية المقموعة ، مثل الأكراد والآشوريين(سريان/كلدان) والأرمن والتركمان والشركس..،  التي تقاتل من أجل الاعتراف الدستوري  بهويتها الخاصة كجزء من تركيبة الهوية الوطنية للدولة السورية . إن تحصين الوحدة الوطنية واعادة التوازن للمجتمع السوري يتطلبان التعاطي الايجابي مع التعددية القومية والسياسية والثقافية واللغوية كظاهرة تاريخية وطنية صحية، ومد الجسور المقطوعة بين ماضي سوريا وحاضرها من خلال اعادة كتابة تاريخها و صياغة هويتها الوطنية من جديد بعيداً عن العقائد السياسية والإيديولوجيات القومية والدينية، واعادة الاعتبار للحقب التي اُسقطت من تاريخ سوريا، كالحقبة الفينيقية والكنعانية والآرامية والسريانية(الآشورية) المسيحية ،وصولاً الى صياغة هوية وطنية سورية موحدة جامعة، تعبر عن كل الطيف السوري، تكون فوق كل الهويات الفرعية.
أخيراً: ليس من المبالغة القول: أن حل مسالة الهوية الوطنية لسوريا يشكل المدخل الصحيح والسليم لحل العديد من القضايا العالقة في المجتمع السوري، في مقدمتها مشكلة القوميات الغير عربية، وعليها يتوقف مستقبل الوحدة الوطنية والدولة المدنية والديمقراطية في سوريا.
سليمان يوسف...

باحث سوري مهتم بحقوق الأقليات

0 comments: