الآشوريون بين خدع المثقفين ودسائس السياسيين


"المقال الذي رفضت جريدة الحياة اللندنية نشره"
نشرت صحيفة "الحياة" اللندنية ، الأربعاء ١-;-١-;- مارس/ آذار ٢-;-٠-;-١-;-٥-;- ،مقالاً للكاتب السوري ( رستم محمود ) بعنوان "آشوريو الخابور: الرحلة والخديعة الأخيرتان". جاء فيه " بشيء من الثقة يمكن القول إن كل هذه السنوات الطويلة بالنسبة إلى الآشوريين، كانت تركيباً من ثلاثة أنماط من "مخادعة الذات": تتمثل المخادعة الأولى بالثقة بضمانات وتحالفات القوى الكبرى، تحت واعز الانتماء للأرومة الدينية المشتركة. فما تحرر الآشوريون من وهم الثقة بالقوة الروسية «العظمى» التي تعهدت حماية مسيحيي الإمبراطورية العثمانية أوائل القرن المنصرم، خلال حربها الطويلة مع العثمانيين، حتى وقعوا في شرك الثقة بنظيرتها البريطانية في العراق. وما إن تعرضوا لمجازر سهل نينوى عام 1933، في ظل صمت بريطاني تام، حتى استسلموا للوعود الفرنسية في سورية. وهكذا، ليس في ما حدث لآشوريي الخابور أخيراً، سوى التثبيت لأوهام الخطوط/الوعود الروسية، بل حتى الأميركية، بتقديم حماية خاصة لمسيحيي سورية حيال مصائب هذا التصارع الداخلي المرعب، في ما لو حافظوا على حياد تام.".
لقد أقحم السيد رستم موقفه السياسي الراهن في تحليلاته ومقاربته لأحداث سياسية وعسكرية مضى على بعضها قرن كامل من الزمن، مما أوقعه في مغالطات سياسية وتاريخية عديدة استوجبت منا الرد والتوضيح. لأن مثل هذه المقاربات الخاطئة والمؤدلجة للواقع المرير الذي عاشه ويعيشه الآشوريون تنطوي على كثير من التضليل السياسي لمواقف وخيارات حركة التحرر الآشورية ، ومن حيث يدري أو لا يدري صاحبها، هي ضمناً تبرر المظالم التي لحقت بالآشوريين وتحرض على ارتكاب المزيد بحقهم . صحيح، أن دول التحالف( بريطانيا – فرنسا- روسيا) ، بشكل خاص بريطانيا التي كلفت بملف القضية الآشورية في العراق باعتبارها الدولة المنتدبة عليه ،خذلت الآشوريين وتخلت عنهم ولم تنفذ الوعود التي قطعتها على نفسها لهم قبل الحرب والمتعلقة بإنشاء "كيان آشوري" في مناطقهم التاريخية، وهي اتخذت مواقف سلبية من القضية الآشورية إثناء مناقشتها في عصبة الأمم. لكن الصحيح أيضاً، أن الأوضاع الاقليمية والدولية عشية الحرب الكونية الأولى واستمرار المظالم والاضطهادات بحق آشوريي ومسيحيي السلطنة العثمانية، لم تترك للآشوريين أية خيارات أخرى سوى المشاركة في الحرب الى جانب دول التحالف ضد السلطنة العثمانية للخلاص من ظلمها واحتلالها للمناطق الاشورية. يبدو أن (رستم ) يجهل أو تجاهل ، بأن الأكراد أيضاً وقعوا في "شرك الثقة" ببريطانيا ودول التحالف. وقد خدعتنهم هذه الدول بتخليها عن معاهدة "سيفر" التي أبرمتها في باريس في أغسطس 1920، والتي اقرت بـ ( إقامة كيان قومي لأكراد تركيا) ، وتوقيع ممثلي دول التحالف على معاهدة "لوزان" لعام 1923، التي الغت معاهدة "سيفر" .
بالنسبة لمذبحة "سيميل" الآشورية العراقية صيف 1933 التي جاء الكاتب على ذكرها ووضعها في سياق "مخادعة الذات" ، اي وقوع الآشوريين في "شرك الثقة" ببريطانيا المحتلة للعراق آنذاك . فيما الحقيقة هي أن هذه المذبحة المروعة كانت مؤامرة أحاكتها حكومة (رشيد علي الكيلاني) ضد الآشوريين بهدف صرف نظر العراقيين عن المشاكل الداخلية التي كانت تعاني منها وبغية تشويه حقيقة المسالة الآشورية واخراجها عن سياقاتها الوطنية العراقية. فقد صعدت حكومة الكيلاني الموقف مع الآشوريين باستدعاء البطريرك ( مار شمعون) الى بغداد بحجة التفاوض معه حول المطالب التي رفعها المؤتمر الآشوري العام الذي عقد في (سر عمادية) يومي 15 و16 حزيران 1932 (اعتراف دولة العراق بالآشوريين شعباً عراقياً أصيلاً - وجوب اعادة مناطقهم التاريخية، التي ضمتها تركيا الى العراق- أن يكون للآشوريين نائباً في البرلمان العراقي). لكن بدلاً من التفاوض مع البطريرك تم اعتقاله وزج به في السجن مع مرافقيه بتهمة التواطؤ مع بريطانيا . كان هذا الاجراء التعسفي واللاقانوني هو الفتيل الذي فجر الاصطدام المسلح مع الآشوريين وارتكاب الجيش العراقي لمذبحة سيميل. وقد صورت حكومة الكيلاني المذبحة على أنها نصراً تاريخياً ضد بريطانيا وإفشال مخططاتها لتفتيت العراق.
يقول رستم " أما رأس المخادعات التي راكمها الآشوريون خلال هذا القرن، فتتعلق بالثقة بالأنظمة الشمولية، بوصفها ضمانة لأحوالهم واستقرارهم كجماعة...". هنا ، تحامل الكاتب كثيراً على الآشوريين بوضعه لهم في خانة المولاة ومناصرة لأنظمة الاستبداد والدكتاتورية . الحقيقة أن الاشوريين والمسيحيين عموماً ،بحكم خصوصيتهم الدينية والاجتماعية، كانت رهاناتهم ومازالت على " الدولة " لا على الأنظمة، ومولاتهم هي للأوطان وليست للحكام . أخطأ السيد رستم ،كما الكثير من الكتاب والمثقفين، باختزال محنة الآشوريين والمسيحيين بأنظمة الاستبداد والدكتاتوريات . أن مقاربة موضوعية وواقعية لتاريخ وظروف محنة مسيحيي المشرق سنجد أن قضيتهم لا ترتبط فقط بطبيعة الأنظمة الاستبدادية والدكتاتورية وهي لن تنتهي بزوال هذه الانظمة . إنها قضية "فوق سياسية" ،تتداخل فيها العوامل السياسية بالعوامل الاجتماعية والثقافية . كما أنها ترتبط بشكل وثيق بقاعدة " اللامساواة الدينية" السائدة في المجتمعات والدول العربية والإسلامية. وإلا بماذا نفسر تدهور وتراجع أحوال وأوضاع الآشوريين والمسيحيين بشكل خطير في الدول التي طالها ما يسمى بالربيع العربي وسقطت أنظمتها المستبدة. وليس من المبالغة القول ، أن هذا الربيع السياسي اصبح وبالاً على مسيحيي البلدان التي عصف بها.
في العراق الجديد ، بعد الخلاص من الاستبداد والدكتاتورية وإسقاط الطاغية (صدام حسين)، كان من المفترض أن تعالج مشكلات وقضايا الشعب العراقي بشكل جذري وسليم في اطار دستور ديمقراطي، يؤسس لدولة عراقية تعددية مدنية، وبما يحقق علاقات وطنية مستقرة ومتوازنة بين مختلف المكونات والاقوام العراقية. لكن ما جرى هو استئثار زعماء الطوائف الكبيرة وقادة الميليشيات المسلحة بالقرار وفرض سياسية أمر الواقع واغراق العراق بحروب طائفية وصراعات عرقية مدمرة. كل طرف سعى لتوسيع حدود دويلته الطائفية والمذهبية والعرقية على حساب وحدة الوطن العراقي. بينما تركت المكونات الصغيرة، مثل الآشوريين (سرياناً وكلدناً) ،مكشوفين ومن غير حصانة أو حماية وطنية، في مواجهة العنف المنفلت للقوى الاسلامية والتنظيمات الارهابية ولعصابات السطو التي مارست بحقهم القتل والخطف ودفعتهم للتهجير القسري من مناطقهم التاريخية حتى كاد العراق ان يخلو من هذا المكون العراقي الأصيل،في ظل صمت وسكوت الحكومات العراقية ،التي تدعي الديمقراطية واحترام حقوق الانسان العراقي.
شخصياً، أعيش في سوريا ومهتم بالشأن الآشوري والمسيحي، لم اسمع بأن الآشوريين والمسيحيين السوريين تلقوا وعوداً من الأمريكان او الروس او من غيرهم بتقديم حماية خاصة لهم من مخاطر الصراع في سوريا فيما لو حافظوا على حياد تام، كما ذكر رستم في مقاله المشار اليه . أنه لموقف مستهجن ومفارقة كبيرة، أن يتهم رستم محمود، وهو كردي سوري، الآشوريين والمسيحيين السوريين بالرهان على الأمريكيين وغير الامريكيين في حمايتهم من مخاطر الحرب السورية، فيما الأمريكان وحلفائهم في التحالف الدولي قدموا ومازالوا يقدمون دعماً عسكرياً ولوجستياً مفتوحاً لأكراد سوريا والعراق في حربهم ضد داعش ولتوسيع مناطق سيطرتهم في كلا البلدين . ناسياً أو متناسياً، رستم، أن بفضل الامريكان وحلفائهم الغربيين، بفرضهم الشمال العراقي منطقة حظر جوي على جيش صدام حسين 1990، حقق أكراد العراق ما حققوه من مكاسب قومية وسياسية. ففي الوقت الذي وقع الآشوريون ضحية الأجندات الطائفية والعرقية للقوى المتصارعة على الكعكة العراقية، استحوذ الأكراد على النصيب الأكبر من الكعكة، فكانوا أكثر المستفيدين من الغزو الامريكي للعراق 2003 بتحويله الى دولة اتحادية فدرالية بين اقليم عربي وآخر كردي في الشمال ،والاقليم الكردي بات قاب قوسين أو اقرب من الانفصال وإعلان الدولة الكردية. 


سليمان يوسف 

باحث سوري مهتم بقضايا الأقليات
shuosin@gmail.com

0 comments: