الأحزاب السورية ومسألة الأقليات


الأقليات في سوريا
الأحزاب السورية ومسألة الأقليات (1/ 8)
مقدمة البحث:
 الأقليات: جماعات تتميز، عرقياً أو قومياً أو دينياً أو مذهبياً أو لغوياً أو ثقافياً ، عن بقية السكان في مجتمع ما. لديها شعور مشترك بالانتماء، وهي ترغب وتسعى للمحافظة على هذا الانتماء وعلى هويتها الخاصة. بسبب خصوصيتها، غالباً ما تضطهد الأقليات وتستبعد عن الحياة السياسية وعن المشاركة الفعلية في ادارة البلاد من قبل الأغلبية العددية  المهيمنة على الحكم وعلى مقدرات البلاد . أحياناً، ولظروف محلية وعوامل تاريخية وسياسية واجتماعية معينة واستثنائية ، تتمكن الأقلية في بلد ما من الوصول الى السلطة واحتكارها لها وتهميش الأغلبية. طبعاً، هكذا حالات وأوضاع لا تبدو صحية أو طبيعية في الحياة السياسية للدول والشعوب. فقد أثبتت تجارب التاريخ بأن الدول والمجتمعات البشرية لن تتقدم ولن تستقر سياسياً إلا في ظل حكم الأغلبية ( سياسية كانت أم عرقية، دينية كانت أم مذهبية) والتداول السلمي للسلطة.
بفعل التطورات والتحولات السياسية والفكرية الكبيرة التي حصلت في العالم والمنطقة في العقدين الأخيرين، أبرزها سقوط (جدار برلين) و تفكك الاتحاد السوفيتي وتحرر شعوبه من الاستعمار الروسي، برزت" مسألة الأقليات" على السطح السياسي والاجتماعي لتشكل بمفاعيلها إحدى أخطر التحديات الداخلية لكثير من الدول. وتبدو معضلة الأقليات أكثر خطورة وحدية في دول منطقة الشرق الأوسط، ،حيث يترعرع فيها كل أنواع الأقليات(القومية، الدينية ،الاثنية ،اللغوية ،المذهبية،..)،وحيث الرغبة القوية  لدى العديد من هذه الأقوام والشعوب في الانفصال  أو الحكم الذاتي، انطلاقا من مبدأ (حق تقرير حق المصير)،كخيار مناسب للتحرر والخلاص من هيمنة واستبداد الأغلبية.
الدولة السورية الحديثة، التي تأسست في عشرينات القرن الماضي وسط (سوريا الكبرى ،أو التاريخية)، ليست استثناءً عن هذا العالم الذي هي جزءاً منه ومن هذا "الشرق الفسيفسائي" بتركيبته السكانية والاجتماعية والثقافية .فنظراً لموقعها الحيوي والهام في قلب الشرق القديم، شكلت (سوريا) عبر تاريخها الطويل ومازالت، موطناً لكثير من الشعوب والأقوام والثقافات والديانات واللغات ،هي بحق "مهد الحضارات"،  تحتضن اليوم:
-   عرب مسلمون ، يتوزعون على العديد من المذاهب الاسلامية( سنة، وهم الغالبية، علويون ،إسماعيليون، دروز).
-   عرب مسيحيون، يتوزعون على العديد من المذاهب والطوائف (كاثوليك، أرثوذكس، بروتستانت).
-   مسيحيون غير عرب، معظمهم من الآشوريين(سريان/كلدان)، وأقلية أرمنية .
-   أقليات عرقية اسلامية غير عربية (أكراد، شركس ، تركمان.. شيشان).
-   أقلية صغيرة من أتباع الديانة اليزيدية، وأخرى من الطائفة الموسوية(اليهودية) السورية.
من المهم جداُ التأكيد في سياق هذه القضية، على أن جميع هذه الأقوام والشعوب تنتمي الى المجتمع السوري وهي جزء من نسيجه الوطني. هي ليست بشعوب أو أقليات دخيلة أو وافدة على الدولة السورية، كما يروج بعض القوميين العرب والاسلاميين. فأصغر وأحدث هذه الأقليات تعيش منذ عدة قرون على الأرض السورية. وبعض الشعوب السورية، مثل الآشوريون(السريان)،الذين يشكلون العمق الحضاري والتاريخي لسوريا الكبرى ولبلاد ما بين النهرين وعنهم أخذت سوريا اسمها، سبق وجودهم بعشرات القرون وجود العرب المسلمين، الذين استوطنوا في الأراضي السورية بعد الغزو الاسلامي. تجدر الاشارة هنا الى أن قادة "الانقلابات العسكرية" الثلاث، التي شهدتها سوريا في بداية استقلالها، كانوا من ابناء الاقليات ومن أصول غير عربية.(حسني الزعيم- كردي)،(سامي الحناوي- درزي)، (اديب الشيشكلي- من أصول تركمانية). رغم انتماءهم الأقلوي، لم يتصرف هؤلاء القادة في تعزيز سلطتهم على اساس طائفي او اثني. وانما  تطلعوا وسعوا، فترة حكمهم القصيرة( 1949- 1954)،الى تعزيز الروابط الوطنية بين ابناء المجتمع السوري ودمج الاقليات والطوائف فيه. وذلك إدراكا منهم لأهمية (الروابط الوطنية) في تجاوز حالة الانغلاق الطائفي والتكسر المجتمعي. وهم وجودوا في (الدولة المدنية) المخرج المناسب لوضع الأقليات وحماية حقوقها والحفاظ عليها من الذوبان والضياع في مشاريع وكيانات سياسية كبيرة، قومية (عربية) أو دينية (اسلامية). لكن مشروع "الدولة المدنية"، الذي تحمست له وسعت اليه النخب الليبرالية من الأقليات السورية وبشكل خاص النخب المسيحية الأكثر انفتاحاً على الثقافات والمجتمعات الأوربية، سقط بين مطرقة "الشريعة الاسلامية"، التي مازالت تشكل خطاً أحمراً في طريق الانتقال الى الدولة المدنية ، وبين سندان "الايديولوجيات الشمولية" للقوميين العرب .الأمر الذي تسبب، بعد نحو قرن كامل على نشأة الدولة السورية الحديثة وأكثر من ستة عقود على استقلالها، في صعود "مسألة الأقليات" لتلقي بظلالها على الحياة السياسية والاجتماعية في سوريا. ولتشكل اليوم اختباراً حقيقياً للقوى الوطنية والديمقراطية واليسارية في البلاد ولمصداقيتها في طرحها لمشروع (الدولة المدنية) ومطالبتها بالديمقراطية.
صحيح أن مشكلة الأقليات (الاثنية والدينية) في سوريا ليست بدرجة من الخطورة بحيث تهدد أمن واستقرار البلاد، كما هو حاصل في عديد من دول المنطقة والعالم. لكن هذا لا يعني أنها غير مرشحة للتصعيد والتفاقم والانفجار، اذا ما اجتمعت وتضافرت ظروف وعوامل داخلية وخارجية، في ظل الانقسامات العمودية الحاصلة وتنامي العصبيات الاثنية والعرقية والانتماءات المذهبية وتراجع المفاهيم والقيم الوطنية في المجتمع السوري. اذا كان نهج الاستبداد (السياسي / القومي) الذي انتهجه حزب (البعث العربي الاشتراكي) منذ انقلابه على السلطة عام 1963، أنتج أو أفرز مشكلة (الأقليات القومية) في البلاد، فان الاستبداد الديني، الذي يخشى منه اذا ما حكمت سوريا يوماً من قبل (قوى اسلامية)،أياً تكن طبيعة هذه القوى الاسلامية وشعاراتها- وهو أمر غير مستبعد في ضوء الصحوة الاسلامية التي تعم المنطقة- سيفجر (الاستبداد الديني)،الى جانب مسألة الأقليات القومية، مشكلة(الأقليات الدينية) أو بالأحرى(مشكلة مسيحية). حيث يعيش اليوم أكثر من 2 مليون مسيحي في سوريا، لن يتخلوا عن حقوقهم الدينية ولن يتنازلوا عن هامش الحريات الاجتماعية المقبول الذي يتمتعون به منذ نشأة الدولة السورية الحديثة. فكما هو معلوم في شرقنا المتدين لا بل المتعصب للدين، تعد(القضايا الدينية)،من المسائل الأكثر قدسية وحساسية وأهمية من القضايا القومية والسياسية .إزاء هذه الأوضاع والتحديات التي تواجه سوريا، تزداد الحاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى لتضافر جهود جميع الأحزاب والقوى الوطنية، سلطة ومعارضة ومنظمات المجتمع المدني، للإسراع في الانتقال بسوريا الى الدولة المدنية الحديثة (دولة المواطنة الكاملة) القائمة على تحييد (الدولة) وهويتها الوطنية السورية عن كل دين وعقيدة وعن كل قومية، عربية وغير عربية. اذ ليس من المبالغة القول: أن وحدتنا الوطنية اليوم باتت مرهونة ومتوقفة على الاحتواء الايجابي لقضية حقوق الأقليات وعلى المعالجات السياسية والديمقراطية العادلة لها ولغيرها من القضايا الوطنية العالقة.
في هذا البحث المتواضع، سنتناول بشيء من النقد والتحليل رؤية وموقف الأحزاب والحركات والتيارات السياسية الأساسية المتواجدة على الساحة السورية، بمختلف اتجاهاتها وانتماءاتها(القومية والإسلامية واليسارية)، من مسالة الأقليات(الاثنية والدينية) في سوريا. وذلك في ضوء ما هو متوفر لدينا من وثائق حزبية وبرامج سياسية ومواقف وتصريحات معلنة لمسئولي وقيادات هذه الأحزاب والمنظمات والحركات السياسية .على أمل أن تفيد وتخدم هذه الدراسة في إلقاء الضوء على (معضلة الأقليات) وأن تحث مختلف القوى الوطنية على البحث عن مخارج وطنية مناسبة لها.
طبعاً، ليس من السهل أن يتناول المرء موضوعاً شائكاً  كـ"معضلة الأقليات" في بلد شائك مثل سوريا. يحكمه نظام قومي عربي شمولي، شديد الخصوصية والحساسية من تناول أو طرح (ملف الأقليات).تديره وتتحكم به سلطة قمعية لا تحترم حقوق الانسان ولا تعير أي اهتمام أو اعتبار لمصالح وحقوق القوميات الغير عربية .أنه (ملف الأقليات) هو شائك اجتماعياً: حيث لدى الأكثريات كما لدى الأقليات على حد سواء، موروث ثقافي تاريخي عميق يشكل، بثقله الاجتماعي والفكري، إحدى العقبات الأساسية أمام انجاز وتحقيق الاندماج الوطني المنشود. شائك سياسياً: حيث  تخضع مسالة حقوق الاقليات، كغيرها من القضايا الوطنية الهامة والمصيرية، لمحاذير، سياسية وايديولوجية وعقائدية وأمنية، من قبل النظام. هذه المحاذير سببت فقراً ثقافياً وفكرياً حول كل ما يتعلق بماضي وحاضر (ظاهرة التنوع والتعددية )التي يتصف بها المجتمع السوري، من جهة أولى .كما أن نهج الاستبداد والمحاذير التي فرضها النظام على ملف الأقليات، أخرجت هذه الظاهرة الحضارية عن سياقها التاريخ الطبيعي وتحولت من عامل قوة وغنى وطني وحضاري لسوريا الى عامل ضعف لا بل الى نقمة على سوريا وشعبها، من جهة ثانية. حتى بات يخشى الكثيرون من أن تفرق السياسية، القائمة على التمايزات بين ابناء الوطن الواحد، ما جمعه التاريخ ووحدته الجغرافية، من شعوب وأقوام وملل سورية عريقة. 

سليمان يوسف

0 comments: